التنمية بالحماية الشعبية في مواجهة كورونا (5-5)
د. عادل سمارة
مدخل
فرض وباء كورونا علينا جميعاً التعاطي معه كلٌ طبقاً لتخصصه وانتمائه. ولعل المجالين الأكثر إلحاحاً للتعاطي معهما هما:
- المستوى الصحي فرديا والطبي جماعيا
- والمستوى الاقتصادي.
سيكون حديثي في المستوى الاقتصادي حيث لاحظت بأن تركيز معظم الكتابات هو على المستوى العالمي للاقتصاد: حرب التجارة، حرب العملات، مؤامرة الحكومة العالمية لفرض العملة الرقمية وشراء الأصول عالميا قبل قتلها للدولار، واضطرار الراسمالية في المركز للاستيراد من الصين وقلقها من سيطرة أكثر للصين…الخ.
(5-5)
4. بناء قطاع صناعي كاستراتيجية عربية
أثبتت تجربة الإنتفاضة أن التعاطي مع قطاع الصناعة يؤكد ضرورة تكامل اقتصاد المناطق المحتلة مع الاقتصاد العربي. فسياسة صناعية مناسبة تفترض وجود سوق واسعة كالسوق العربية، وليس فقط سوق المناطق المحتلة. فالحماية الشعبية كمختلف الإستراتيجيات التنموية تتطلب أوسع سوق ممكنة، وهو الأمر الذي يُحضر في الذهن المقولة الاقتصادية المتفق عليها، بأن الدولة الصغيرة سواء كانت راسمالية او اشتراكية لا بد أن تكون تابعة. وعليه، فإن إصرار الفلسطينيين على كسب دويلة “قطرية-إقليمية” صغيرة هو في جوهره مضاد للتنمية والوحدة العربية. ولعل ما حضر في الذهن بُعيد احتلال الولايات المتحدة للعراق، إن الدويلة الصغيرة وحتى الدولة متوسطة الحجم غير قادرة على صون سيادتها.
إن تطبيق التنمية بالحماية الشعبية هو في الحقيقة مرتبط ب ونابع من خيار الشعب. إنه تحدٍ وتجربة لشعب يختار التركيز على قطاع الزراعة باعتباره الخيار الأكثر إمكانية أفضل خيار ممكن. وهذا لا ينفي ضرورة إقامة صناعات. ولكن، في الحالات العادية، لا بد لكل مجتمع أن ينتج حاجاته الأساسية، لا سيما إذا كان موهوباً ثرواتياً، ولا يعاني من نقص في رأس المال الضروري، والمعرفة العلمية، والمهارة العمالية، وحينما تصبح التكنولوجيا أكثر تعقيداً. إن جزءاً من التكنولوجيا المعقدة قد اصبح ضرورياً، طالما أن التكنولوجيا الوسيطة والمحلية غير قادرة على الحلول محلها أو تعويضها.
وكما اشرنا مرة تلو أخرى، وخلال السنوات الأولى للانتفاضة الأولى بأن الفلسطينيين في المناطق المحتلة قاطعوا المنتجات الإسرائيلية، لكنهم في ذلك الوقت، وما زالوا، غير قادرين على إنتاج كل ما يحتاجونه من السلع المصنعة. وفي الحقيقة، ليست هذه العقبة الوحيدة، فالعقبة الرئيسة كانت تخلف أو عزوف كل من قيادة م.ت. ف ولاحقا سلطة الحكم الذاتي والرأسمالية المحلية بمعظمها عن الاستثمار في القطاعات الإنتاجية لتعويض ما أمكن تعويضه من السلع الصهيونية المطرودة بسبب المقاطعة. إن بلداناً عربية تنتج هذه الحاجات، والكثير منها قادر على إنتاج السلع عالية التكنولوجيا.
وعلى ضوء تطورات التسوية الكمبرادورية، أو سلام راس المال على الصعيد العربي، والتي تعني فيما تعنيه دخول وليس مجرد تسرب المنتجات الصهيونية إلى السوق العربية، فلماذا لا يقوم القوميون والاشتراكيون العرب بالمطالبة بدخول المنتجات العربية إلى الأسواق العربية بنفس المستوى، على الأقل!. وإذا ما حصل هذا بشكل فعلي، فستكون المرة الأولى منذ قرن على الأقل التي يتم فيها التبادل المباشر عربياً. وستكون المفارقة، أن هذا حصل ليس بقناعة أنظمة الكمبرادور بل لستر عار دخول المنتجات الصهيونية. وإذا ما حصل هذا، فإن التسوية السياسية الإمبريالية تخلق نقيضها. وهذا التبادل المحتمل عربياً هو نفي لمشروع التجزئة المتواصل منذ قرن من الزمان. وإذا ما واصلت أنظمة الكمبرادور منع المنتجات العربية والسماح للصهيونية والرأسمالية الغربية، فيجب أن تكون هذه المسألة مرتكزاً نضالياً ضد الكمبرادور، ليس للطبقات الشعبية وحدها هذه المرة، بل حتى للشرائح المنتجة من البرجوازيات المحلية مما يوفر للأمر قاعدة شعبية أوسع.
هذا يعني أن اكمال التركيب الإنتاجي للتنمية بالحماية الشعبية في الضفة والقطاع مشروط بمستوى التبادل في الأسواق العربية وتصدير المنتجات الزراعية واستيراد السلع المصنعة. هذا الأمر كان ممنوعاً على فلسطينيي الضفة والقطاع منذ بداية الاحتلال عام 1967، حيث كان يسمح بتصدير المنتجات الزراعية إلى الأردن، دون أن يسمح بسهولة دخول منتجات أردنية إلى أسواق المناطق المحتلة. ولكن، في أعقاب أوسلو، حصلت تسهيلات لإدخال منتجات اردنية، ومصرية بما هما في علاقات اعتراف بالكيان الصهيوني.
أحد أهداف إعادة تواصل التجارة البينية العربية هو مقاطعة منتجات الكيان الصهيوني والمركز الراسمالي الغربي، وهذه خطوة ذات جوهر قومي أكثر مما هو طبقي. وذلك لأن توسيع التنمية بالحماية الشعبية إلى الوطن العربي أو انتماءه لها، يهدف إلى تكامل البنية الصناعية العربية، مع هذا المشروع.
تجدر الإشارة إلى أن الخيار الحقيقي هو رفض تسوية مدريد-أوسلو، أي سلام رأس المال. ولكن بما أن ميزان القوى ما زال لصالح الكمبرادور، لا بد للطبقات الشعبية أن تستغل مختلف الإمكانات واستغلال كافة السقوف الممكنة دون أن تدعم مدريد – أوسلو أي ان تواصل مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، وأن تطالب بحق الوصول إلى المنتجات العربية.
وكجزء من الوطن العربي، لا بد للإقتصاد الفلسطيني أن يتكامل مع اقتصادات الوطن العربي. إن الإعتماد على الذات عربياً والتقسيم الطبيعي للعمل هام هنا. وهذا يؤكد أن التصنيع طبقاً لمشروع التنمية بالحماية الشعبية هو اعتماد إقليمي على الذات، وليس تصنيعاً منفصلاً لكل قطر بمفرده حتى لو كان كبير الحجم كمصر.
5. شكل جديد لشبكة تسويق
لأن مشكلة التسويق في الضفة الغربية وغزة لا يمكن تجاوزها بمسألة تقنية تدريبية، مثلاً ورش عمل يديرها محاضرون في كليات أكاديمية، لا يملكون علاقة مباشرة ومعلومات حقيقية عن السوق، ومزاج المستهلك. فهم يقررون بناء على مسوحات بمعايير رأسمالية، ربما تعلموها في موديلات الإقتصاد في الجامعات الغربية، ولذا لا يأخذون بالاعتبار الحاجات الأساسية للناس وإشكالية العقبات التي يفرضها الإحتلال.
ففي بيئة تنموية حقيقية، يكون للسوق معنى مختلفاً ويعمل بشكل مختلف عن السوق التقليدية المالوفة. وعليه، فإن شبكة تسويق محلية هي أداة عملية وفعلية لنقل المنتجات الضرورية (حين توجد) إلى المستهلك المحلي. وفعالية هذه الشبكة كانت في تجنب التاجر الطفيلي كوسيط غير ضروري. لقد بادر البعض خلال الإنتفاضة الأولى إلى إقامة شبكة من هذا الطراز داخل المناطق المحتلة و لتسويق ما أمكن منها حتى داخل مناطق الإحتلال الأول حيث كانت هناك فورة عاطفية لدى فلسطينيي الإحتلال ألأول لدعم إقتصاد الإنتفاضة، لكن المنظمات السياسية فشلت في القيام بنفس العمل، وتشجيع هذا التوجه، هذا إلى جانب العقبات التي فرضها الإحتلال.
كان الافتقار إلى شبكات التسويق هو أحد مقاتل التعاونيات التي تكونت خلال الإنتفاضة الأولى والتي حظيت بتشجيع شعبي واسع. لكن البعض من هذه التعاونيات الشعبية أُقيم في مناطق وأحياء البرجوازية الصغيرة التي لم تتخلص من نمط الاستهلاك الراسمالي، بل تفضل استهلاك المنتجات الصهيونية والأجنبية. لذلك، أفلست هذه التعاونيات سريعاً لأنها لم تكن في سوقها أو بين جمهورها الطبيعي. وعليه، فإن شبكة تسويق وشبكة تعاونيات هما أمر ممكن إذا اختارتا المكان والسوق الطبيعيين لها.
لقد تطور بعد جديد خلال الإنتفاضة الأولى حيث قام بعض المبادرين من فلسطينيي الإحتلال الأول بإقامة شبكات تسويق بين مناطق الإحتلالين، إلا أن قيام السلطة الفلسطينية لاحقاً بتصفية مشروع المقاطعة، قوَّض هذه الجهود. أما خلال الإنتفاضة الثانية، فإن سلسلة الأسوار[13] التي أقامها الاحتلال قوضت بدورها أية فرصة لشبكة من منطقتي فلسطين. وكما اشرنا في غير موضع، فإن جيش الإحتلال الذي أغلق كافة مواقع السكن الفلسطيني، قد فتح طرقاً لتسريب المنتجات الصهيونية إلى كل من هذه الأمكنة لإبقاء السوق الفلسطينية أسيرة لصالح منتجاته.
6. إعادة توزيع الفائض
من الخطى الضرورية للتنمية بالحماية الشعبية القيام بإعادة توزيع الفائض ولا سيما خلال الإنتفاضة كمبادرة شعبية. فقد أثبتت تجربة الإنتفاضة أن رأس المال هو ضد أي شكل من العدالة، وحتى خلال الصراع القومي، وخلال تقديم الطبقات الشعبية تضحيات الدم وتقديمها ما لديها من وفر بسيط في إقامة تعاونيات شعبية.
وعلى العموم، فإن دفع أجرة مقبولة، هو في حد ذاته خطوة أولية في إعادة توزيع الفائض، بما هو أي الفائض، منتج من قبل قوة العمل اساساً.
وطالما أن قوة العمل هي سلعة، فإن اجرتها (سعرها) يتم تقريره طبقا لمعادلة السوق في العرض والطلب، ولا يختلف الأمر إن كان البلد تحت استعمار استيطاني أم لا. لذا، لا بد من وجود الحركة العمالية والنقابات على الأقل لتحصيل أجور أفضل. وحتى حينما تضطر ديكتاتورية راس المال لدفع أجور أفضل، فذلك ليس إلا بسبب النضال العمالي من جهة، ولتجنب عدم الإستقرار الإجتماعي من جهة ثانية، ولإبقاء خط الإنتاج دون تقطعات بسبب الإضراب. فرأس المال لا يزيد الأجور بدافع القبول بإعادة توزيع نسبي للثروة، أو كما يسميه إقتصاديو البرجوازية، التشارك في الكعكة. والحقيقة أن الكعكة لهم وحدهم.
لقد استفادت الرأسمالية المحلية طوال فترة الإحتلال من حقيقة أن الإحتلال نفسه كان يدعم، وإن لا مباشرة، عدم رفع الأجور أو تحسين أحوال العمال. فقد فرض الإحتلال على المناطق المحتلة 1967 الفي أمر عسكري ركزت بيده كافة مجالات الحياة وكان من بينها ألف أمر تخص الاقتصاد، ولم يكن من بينها أي أمر بخصوص أجور العمال. وقد يكون السبب وراء ذلك:
- إما لأن الإحتلال يدفع باتجاه توتر إجتماعي متواصل بين الفلسطينيين، وخاصة الراسماليين والطبقة العاملة، وهو الأمر الذي يقود في النهاية إلى مزيد من إضعاف النضال الوطني،
- أو لأن سلطات الإحتلال تفضل دعم الطبقة الراسمالية، ولا سيما الشريحة الكمبرادورية الفلسطينية (إذا ما اضطر الاحتلال للاختيار)، على حساب الطبقة العاملة، لا سيما وأن كثيراً من أفراد هذه الطبقة يشتركون معه في تعاقدات من الباطن وفي تسويق منتجاته، في حين أن الطبقة العاملة هي رأس الحربة في النضال ضد الإحتلال، والفلاحين هم الأكثر تضرراً منه مما يضعهم ايضاً في الصف الأول للمقاومة . وباختصار، فلا بد أن يكون الإحتلال ضد إعادة توزيع الفائض لأسباب قومية وطبقية معاً.
وعلى أية حال، فإن ضعف الحركة العمالية كامن في أحادية ثقافتها، أي المستوى السياسي/القومي، بدل أن تكون مقترنة كذلك بالمستوى الطبقي، وهو الأمر غير الموجود لدى الطبقة الرأسمالية. فطالما حصرت الطبقة العاملة أولوياتها في النضال الوطني، في حين ظل تركيز رأس المال في مصالحه الطبقية الخاصة. هذا إضافة إلى أن تدهور الوعي الطبقي العمالي في أوساط الحلقات اليسارية، وفشله في الدمج ما بين النضالين القومي والطبقي في صيغة تواجه هيمنة الراسمالية التي تستغل الطبقات الشعبية حتى في ظروف الإحتلال، كل هذا يقود إلى بقاء الأجور متدنية.
لم تحاول الرأسمالية طوال فترة الإنتفاضة تحسين أجور العمال رغم أن الإنسحاب الإستهلاكي إلى الداخل زاد حصتها من الفائض. كما لم تحاول قيادة م.ت.ف في الخارج التدخل في هذا الأمر، ولم تحاول توسيع نطاق التشغيل عبر توفير قروض لإصلاح الأراضي أو الضغط على رأس المال لإستثمار أوسع لاستيعاب مزيد من العمال. كما أن الأمر نفسه بالنسبة لسلطة الحكم الذاتي. وهذا يؤكد بأن على الطبقة العاملة أن تتناول الأمر والعلاقة من مدخل آخر، مدخل جذري إي إعادة توزيع جذري للفائض، ولا نقصد هنا الانحصار في زيادة الأجور، لأن زيادة الأجور أمر يجب أن يكون دوماً على الأجندة لا سيما وأنه لم يلحق بالأسعار. فعلى سبيل المثال، حينما يحصل العمال على زيادة بقدر عشرة بالمئة في الأجور، لا بد أن يبدأوا بعدها بالمطالبة بزيادة عشرين بالمئة…وهكذا. فالطبقات الشعبية ترمي بالتنمية بالحماية الشعبية الإنسحاب في النهاية من المشروع الرأسمالي نفسه، وذلك في البداية بالإقامة والعمل والإستهلاك من التعاونيات، وهذا مدخل لخلق قانون قيمة محلي جديد.
ليس هذا مجرد إعادة توزيع للفائض، إنه تأميم للفائض، إنه تحرير قوة العمل عبر توفيرها الفرصة لنفسها بحيث تقود نفسها وتتحكم [14] بقوة عملها. ولهذا، فهي ثورة ثقافية ليس في مجال الثقافة وحسب ولكن في نطاق الشغل كذلك.
إلا أن خطوة أوسع لا بد من إتخاذها للضغط على السلطات الحاكمة لإعادة توزيع الأراضي غير المزروعة أو القابلة للإستصلاح في حالة سلطة الحكم الذاتي، بتوزيع هذه الأراضي على الشباب العاطل عن العمل والمؤهل لعمل زراعي. لا شك أن سلطة الحكم الذاتي لن تقبل هذه الإقتراحات، ولذا، من الضروري الضغط عليها بهذا الصدد، كمدخل لتربية المواطن ضد النظام التابع. وهذا يوضح موقف التنمية بالحماية الشعبية من اقتصاد السلطة البرجوازية. ما يتم نقاشه هنا اقتصاديْ، أو نمطيْ إنتاج، واحد للتنمية بالحماية الشعبية، والآخر هو النظام الرأسمالي، وكلا النظامين أو نمطي الإنتاج يتعايشان جنباُ إلى جنب، إنما في علاقة تناقضية.
7. فك الإرتباط بالاقتصادات الصهيونية والإمبريالية
مررنا على هذه المسألة سابقاً. لكن من الضروري الإشارة هنا إلى أن التنمية بالحماية الشعبية بدأت كانسحاب إلى الداخل ويجب أن تنتهي إلى فك ارتباط فعلي. هذا النمط من فك الإرتباط هو قرار من الطبقات الشعبية. إن استراتيجية فك الإرتباط لم تُؤخذ على محمل الجد لدى م.ت.ف. بل إن من أبدعها ومارسها هي الطبقات الشعبية عبر مقاطعتها لمنتجات الكيان الصهيوني الاشكنازي. أما تشكيل سلطة الحكم الذاتي فكان العامل الذي احتجز تطور هذه الظاهرة حيث أوقفت هذه السلطة عملية المقاطعة، وهو الأمر الذي حول الإنتفاضة إلى ثورة شعبية مغدورة.
لعل حجر أساس في هذا النموذج هو حفز العرب، وليس الفلسطينيين فقط، أي الطبقات الشعبية العربية عامة على مقاطعة المنتجات الإمبريالية والصهيونية, سياساتهم وثقافتهم الرأسمالية. تجب الإشارة هنا إلى أن هذا النموذج يحتاج إلى تعميم باتجاه الوطن العربي. وفي الحقيقة، فإن مسألة المقاطعة متواجدة في الوطن العربي، وإن بدرجات. من المستحيل على كافة هذه العوامل الأساسية أن تُتبنى إذا لم تُدعم من سياسة اقتصادية شعبية تشتمل على الإستهلاك، والإنتاج، وإعادة توزيع الفائض. وهذه جميعها مكونات لثورة ثقافية.
لا شك أن هذه المقاطعة تناقض المقاطعة الرسمية التي مارستها الأنظمة العربية على بعض الشركات العالمية التي تتعامل مع “إسرائيل” [15]. وعلى اية حال، فإنه طبقاً للسياسات الإمبريالية فإن هذه المقاطعة سيجري تقويضها. لذا، فإن مقاطعة شعبية عربية للمنتجات الصهيونية والإمبريالية هام كآلية ضد التبعية الجديدة المفروضة على البلدان العربية من خلال ما يسمى سوق الشرق الأوسط. لا بد من الإشارة إلى أن النضال ضد التطبيع هو مبادرة شعبية عربية بدأت قبل الإنتفاضة وانتعشت خلال الإنتفاضة لدعمها. وهذا عامل تشجيع للفلسطينيين للإستمرار كما أنه يشجع الطبقات الشعبية العربية على توسيع استراتيجيتها في المقاطعة ومناهضة التطبيع.
8. مشروع تنمية عربية بالحماية الشعبية
يمكن تبني هذا النموذج وتطويره وتطبيقه في الوطن العربي بما هو جزء من محيط النظام الرأسمالي العالمي. بل وفي كثير من بلدان المحيط لأن بينها سمات عديدة من التشابه سواء من حيث مستوى التطور، او التشكيلات الإجتماعية، او الطبقات الحاكمة، وبصفة خاصة كون محفزات نضال الطبقات الشعبية متشابهة. فهي تتشارك في نفس الأهداف والمصير كذلك.
إن الحركة الجديدة في الوطن العربي والتي بدأت في أعقاب إتفاق أوسلو على شكل مناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني، ورفض مشروع الشرق الأوسط ورفض اندماج الكيان الصهيوني بشكل مهيمن في الوطن العربي، هذه كلها أشكال جديدة من إعادة الاصطفاف الطبقي في الوطن العربي على صعيد الطبقات الشعبية العربية.
وقد تمثل هذا الرفض في مواقف مثقفين ومختصين والطبقات الشعبية العربية المناهضين للتطبيع. ولعل ما هو ضروري هنا هو نموذج تنموي يُعرض لهم ويطورونه كما يرون. لذا، فإن التنمية بالحماية الشعبية هامة بما هي عربية وتجربة حية خلال الإنتفاضة.
إن مقاطعة الطبقات الشعبية العربية لمنتجات الكيان الصهيوني والمركز الرأسمالي هي حجر اساس في مستويات الإقتصاد والسياسة والثقافة.
هذا بديل للمقاطعة الرسمية الزائفة التي مارستها الأنظمة العربية والتي تقوضها هذه الأنظمة تدريجياً منذ اتفاق كامب ديفيد وصولاً إلى أوسلو ووادي عربة. إن التنمية بالحماية الشعبية هو البديل الطبقي لما قامت به الأنظمة العربية التي تنتهي يوماً بعد يوم بدمج الكيان الصهيوني إندماجاً مهيمناُ في الوطن العربي وهو الموقف الذي مارسته الطبقات الكمبرادورية القطرية العربية.
وبشكل موجز، فإن تعميم ثقافة وممارسة المقاطعة ومناهضة التطبيع ضد الكيان الصهيوني ومركز النظام العالمي هو تطوير للتنمية بالحماية الشعبية من المستوى المحلي إلى القومي فالأممي.
لا شك أنه ليس بوسعنا تجنب السؤال: هل بالإمكان تعميم هذه التجربة على الوطن العربي والعالم الثالث؟
والجواب على ذلك، إن هذا النموذج مفتوح لمختلف المساهمات التي تقود إلى تطويرها طبقاً للوضع المحلي في كل بلد. باعتقادنا، إن هذه التجربة (تجربة الإنتفاضة الفلسطينية الأولى) و النموذج النظري الذي طورناه على أساسها لاستكمالها، تستحقان أن تؤخذا بالاعتبار كأساس للتنمية الإقليمية في الوطن العربي وفي المحيط. لذا، فإن المناقشة لا تنحصر في التفاصيل.
وبناء على التطورات التي تحصل في الوطن العربي من الواضح أن الطبقات الشعبية تنأى بنفسها أكثر وأكثر عن سياسات الطبقات الكمبرادورية الحاكمة. هذه الطبقات تقوم بتعميق التبعية و التبادل اللامتكافئ ضد رغبات ومصالح الطبقات الشعبية في الحريات والوحدة والتنمية والكرامة. فالطبقات الحاكمة مع التجزئة ضد الوحدة وهي ديكتاتورية، ومجرد وجودها ونمط حكمها الإستباحي هو احتقار للإنسان العربي، وهي تنحصر في الفهم البرجوازي للقومية على حساب الموقف القومي للطبقات الشعبية، وتشارك في المشروع الأميركي الخطير للشرق الأوسط، وتبني شكلاً استسلامياً كحل للصراع العربي الصهيوني بدل السلام الحقيقي، وتطلق يد البنك الدولي في إعادة صياغة اقتصادات الوطن العربي وتسهيل هيمنة الولايات المتحدة على الوطن العربي واستدخال الهزيمة، وتقبل اندماج الكيان اندماجاً مهيمناً في الوطن العربي.
من وجهة نظر الطبقات الشعبية العربية، فإن هذا الإنقسام العميق بين الشعبي والرسمي عربياً هو فجوة لا يمكن ردمها، وهذا يتطلب لتعميقه ثورة ثقافية عربية، ليست التنمية بالحماية الشعبية سوى مقدمة أولية لها.
ومن جهتها، فإن الثورة المضادة تقوي معسكرها، لذا، فإن هذه الأنظمة تنصح او تعظ بتوسيع القاعدة الإجتماعية للنخب السياسية الحاكمة بهدف تقويتها ضد الجماهير. هذا التوسع عبر “الشراكة في السلطة” بين النخب السياسية الحاكمة والقطاع الخاص. وهذا يعني ان الفجوة بين الطبقات الشعبية ورأس المال التابع تتوسع. لذا، فإن التنمية بالحماية الشعبية هي الأجندة الإشتراكية المناسبة لمواجهة الثورة المضادة. تشتمل هذه الأجندة على تكامل اقتصادي عربي على قاعدة التنمية بالحماية الشعبية، ومقاطعة المنتجات الإمبريالية والصهيونية، ورفض التطبيع مع “إسرائيل” ومختلف الدول التي تدعمها.
[13] إن عزل كل موقع سكاني عن غيره هو سور، ومنع دخول منتجات المناطق المحتلة إلى الكيان هو سور، ومنع الوصول إلى الأقصى هو سور ايضاً. فليست الأسوار من الإسمنت فقط.
[14] كمثال على هذا التحكم نورد سلسلة المشاريع المكونة من مجموعة مشاريع تعمل مع بعضها البعض تكاملياً، وليس بعزل أحدها عن الآخر. مثلاً، إذا ما قامت مجموعة من الناس بإنشاء مطحنة حبوب كتعاونية مساهمة، بحصص مالية بسيطة، كي تستقطب عدداً كبيراً من محدودي الدخل من الطبقات الشعبية، يكون هؤلاء عاملين ومستهلكين منها في نفس الوقت. في هذه الحالة، فإن قسماً منهم، أو جميعهم كمنتجين مستقلين، يمكن أن يشتركوا مع مزارعين لزراعة الحبوب لتشغيل المطحنة، وهنا سوف يكسب المساهمون دخلا كمساهمين، حيث يقدمون للمطحنة المادة الخام ويساعدونها كمستهلكين لمخرجاتها بسعر مقبول. وإذا ما ربى نفس المزارعين قطعان ماشية، فإنهم سيكونون مستهلكين من إنتاج المطحنة باسعار مقبولة، وسيكون للقطعان دورا في تسميد الأرض التي يزرعونها بالحبوب مما يعطيها فرصة لخصب أفضل ويوفر للمزارع نفسه سماداً طبيعياً بكلفة بسيطة، كما يوفر أعلافاً للقطيع بسعر مقبول. إن هذه السلسلة مثابة مستوى أعلى من الكفاية الذاتية.
فمطحنة الحبوب تساهم في تزويد السوق المحلية بالحاجات الأساسية، وهذا يحفظ الفائض المحلي من النزف إلى الخارج لشراء هذه المنتجات، كما أنه في الحقيقة بيد الحركة التعاونية. هذه حالة من إعادة توزيع الفائض وتطوير قانون قوة محلي. وهذه السلسلة موجودة في الواقع العملي، ولكن على شكل أفراد معزولين يتحكم بهم التاجر او الراسمالي المحلي، في حين أنهم هم القاعدة الإنتاجية والإستهلاكية العملية,. وما نريده هنا فقط هو أن يتنبه المنتجون إلى جوهر وسحر التعاون.
[15] بدأت المقاطعة الرسمية العربية للكيان وللشركات الأجنبية المتعاملة معه منذ احتلال فلسطين عام 1948. واختيرت دمشق مقراً لمكتب المقاطعة. لكن فعالية المكتب لم تكن بالمستوى المطلوب، ومع ذلك، فإن اتفاقات التسوية وخاصة اتفاق كامب ديفيد 1978 مع البرجوازية الكمبرادورية في مصر، ولاحقاً اتفاق أوسلو مع نظيرتها الفلسطينية 1993، اتفاق وادي عربة من نظيرتهما الأردنية، أدت إلى تراخي هذه المقاطعة، الأمر الذي سمح لكثير من الأنظمة العربية أن تقيم علاقات سفاح تجاري مع الكيان، أي حتى بدون اعتراف. ولذلك، فإن التبادل بين بعض القطريات العربية والكيان هو أعلى من التبادل بينها وبين قطريات عربية أخرى. لقد وصل التطبيع وما شمله من تحويل الكيان إلى مركز تصدير صناعي وزراعي وتقني إلى القطريات العربية، إلى حد “تصدير” النفايات النووية الصهيونية إلى موريتانيا!
الجزء الأول
الجزء الثاني
الجزء الثالث