انكشاف حقائق مخفية لعالم مزيف (2 – 4)
الحراك الخامس يُعري أكذوبة القرية العالمية
التكنولوجيا …لنقل الوباء
د. عادل سماره
في الرد البرجوازي على المدرسة الماركسية الهامة “مدرسة النظام العالمي ” وخاصة ردأ على نظرية كون العالم مكونا من مركز ومحيط، أو مركز ومحيط وشبه محيط أو عالم أول وثاني وثالث ومؤخرا رابع ابتدع الفكر الاقتصادي الاجتماعي أو علم الاجتماع البرجوازي وهماً معولما اسموه القرية العالمية بمعنى أن العالم اصبح قرية واحدة وهو وصف يوحي بالمساواة والرفاهية المشتركة لمختلف الأمم!
كان هذا بالطبع ضمن المزاعم المقترنة بحقبة العولمة التي تترنح اليوم أمام ضربات كورونا. حيث تضمنت هذه المزاعم بأن العالم منفتح على بعضه وخاصة مع ثورة المواصلات والإنترنت…الخ.
لكن حقائق الواقع تدل على اختلاف عن هذه الصورة الجميلة، فهذه القرية مكونة من مركز متطور وغني وناهب للمحيط، ومحيط تابع وفقير.بل إن معظم المدن في العالم تُمثِّل هذه الحالة حيث مركز المدينة أو المدينة نفسها نظيفة وتعج ببنايات عالية وبها مختلف الخدمات والمؤسسات، ولكنها محاطة بمدن الصفيح والأكواخ المتزاحمة بشكل عشوائي والناس المتراكمة فيها كبقايا السيارات المعطوبة او البضائع المضروبة.
لعل ما يكشف زيف هذه القرية/الخرافة هو الحديث الإعلامي عن الحراك الحر من بلد أو مكان لآخر عبر وسائل الانتقال، أو حرية التنقل التي هي في الحقيقة قائمة على أساس رأسمالي طبقي بامتياز. فخطوط الطيران مثلاً لا تتوفر إلا لمن لديه إمكانات مالية للتنقل بها، ويا للمفارقة، فهذه الخطوط نقلت وباء كورونا إلى مدى معولم، وبالطبع أكثر المتنقلين بها ليسوا من الطبقات الشعبية!وهكذا يكون كورونا أول وباء استخدم التكنولوجيا.
يقترن الحديث عن القرية العالمية بالشعار الذي تبنته المؤسسات المالية الدولية الأساسية الثلاث : المصرف الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية: والذي يقضي أو يروج ويلتزم بشعار “تحرير التجارة الدولية” والتي تقتضي التنقل الحر. ولكنه ليس حراً.
هناك حرية لتنقل رؤوس الأموال، وهي طبعا ليست بأيدي الفقراء ولا البلدان الفقيرة، وهناك حرية تنقل البضائع، وهذا امتياز للدول الغنية المتطورة المنتجة، وهناك حرية تنقل الخدمات، وهذه مع تطور التكنولوجيا هي ايضا ميزة للدول الغنية المتقدمة أو لِنَقُل دول الشمال. هذه الإمكانيات للدول المتقدمة هي حماية اقتصادية غير مباشرة بمعنى أنها تنتج ما تحتاج ويفيض، وبالتالي هذا الإنتاج والفائض مثابة حاجز أمام أي تصدير إليها دون حتى أن تضع قوانين حمائية بشكل مباشر.
قد يوضح الأمر المثال التالي: إثر طفرة اسعار النفط عام 1973 تقدم مستشارون غربيون لبلدان الخليج العربي باقتراحات بناء صناعات بتروكيماوية، وتصورت حكومات هذه البلدان بأن الغرب سيكون سوقا لها، وحينما بدأت تنتج مع بداية الثمانينات، كان الرد الأوروبي خاصة: “إن إدخال اية كمية من هذه المنتَجات إلى أسواقنا نكون كمن ندق في رأسنا مسماراً”!
بالمقابل، فإن ما يتوفر للدول الفقيرة هو وجود قوة العمل الفائضة والعاطلة عن العمل، وهذه هي “البضاعة” الوحيدة التي لا تتمتع بالتسهيلات المزعومة للقرية العالمية. هذا دون ان نتحدث عن إذلال حراك اللاجئين المهاجرين رغما ولا طمعاً.
في حقبةٍ ما، كان هناك طلبا من الغرب على قوة العمل من المحيط ولا سيما خلال وبعد الحربين الإمبرياليتين، ولكن هذا أمر توقف.
وبالطبع، نلاحظ عسف الغرب في هذا المجال عبر موقفه من موجات اللجوء من بلدان إفريقية ومن سوريا بسبب العدوان المعولم ضدها ومن بلدان اخرى منها باكستان وأفغانستان…الخ.
الحراك الخامس طبقي وتفكيك دون إعادة بناء القرية
دعنا نصف وباء كورونا بالحراك الخامس الذي حملته وسائل الانتقال والاتصال التي تمتعت بها البلدان الغنية والطبقات البرجوازية والوسطى، وليس العمال والفقراء، إلا نادراً ووصل انتشاره على أيدي هؤلاء إلى مدى استحالة إيقاف انتشاره العالمي السريع إذْ نعيش في عالمٍ شديد الترابط حيث شبكات التنقل البشرية هي ناقلات طوعية لانتشار الفيروس بما هي شبكات شاسعة ومفتوحة. ولا ندري تماما متى يتوقف هذا الانتشار .
المفارقة، أن الدول التي طالما تغنت بالقرية العالمية ووجوب التواصل والانفتاح وتنقل البضائع والخدمات والأموال تحولت مع ضربات أو غزوات الوباء الى بلدان مغلقة وأصيبت برهاب أجانب “xenophobia” وخاصة ضد الصين بل وضد بعضها البعض. فقد أغلقت كل دولة أبوابها على جاراتها مما جعل القرية العالمية مجرد أكشاكٍ منفردة!
ورغم انكشاف زيف هذا الخطاب البرجوازي عن القرية العالمية، إلا أن تفسيرها الجديد له قد اتخذ أيضا خطابا مزيفاً حيث يجري وصف إغلاق البلدان أبوابها عن بعضها البعض بوصف ذلك بالسياسات القومية،وهو نفس الوصف الذي صِيْغ لصعود ترامب/و للسلطة في الولايات المتحدة و بولسانيرو في البرازيل و مودي في الهند وجونسون في بريطانيا…الخ.
وهذا الوصف هو تشويه القومية بزعم أن القومية هي فاشية دائماً وهذا وصف مقصود به اساساً دفع بلدان العالم الثالث الخاضعة لأي نوع من الاستعمار للتخلي عن سيادتها وفتح أبوابها مشرعة لمختلف أشكال الغزو الاستعماري وخاصة للحراكات الثلاثة المحتَكَرة للغرب الصناعي بدل مقاومته. يمكن وصف هذه السياسات الغربية بالشوفينية وليس بالقومية وذلك أنها سياسات تفرضها الطبقات الحاكمة هناك كما يمكن وصفها بالطبقية حيث تعلن كثير من حكومات الغرب البرجوازية أن التخلي عن كبار السن أمر لا باس به لأنه يوفر على الاقتصاد المال والغذاء والدواء…الخ. هذا مع أن النعمة التي بها الجيل الشاب هي من تعب الجيل السابق!
وفي حقيقة الأمر، فإن أغنياء هذه البلدان مهما كانوا طاعنين في السن، فهم أولاً بالمعدل العام بصحة أفضل من كهول الطبقات الشعبية و بوسعهم شراء أثمن الأدوية وتوفير كافة وسائل الوقاية…الخ. وهذا يؤكد أن إغلاق كل بلد ابوابها عن الأخريات هي سياسات طبقية لا تمثل حقاً حماية كل المجتمع هنا أو هناك. وكأننا هنا أمام سمة طبقية حتى لوباء كورونا بمعنى بأنه اساساً يُبيد الفقراء!
من المفيد الإشارة إلى أن الصين التي تمثل اليوم أمل تسهيل خلاص العالم من وباء كورونا هي بلد قام نظامه إلى درجة كبيرة على المرتكز القومي ولكن لخدمة الشعب باجمعه بمضمون اشتراكي كما كرَّس ماو تسي تونغ. واليوم، فإن من يتصرفون بشكل شوفيني للقومية يأملون من النظام القومي الصيني المساهمة في إنقاذهم!
لعل الشوفينية الحقيقية هي إنَّ دوائر معينة في إدارة ترامب احتفت مع بداية تفشي كورونا في الصين بالخنجر الذي يغرسه الفيروس في القصة المُظفَّرة للنمو الصيني، وللمفارقة فإن نفس هذه الإدارة تستجدي الدعم الصيني.
بقي أن نقول، بأن الإغلاق الشوفيني النموذجي هو ما يقوم به الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين وخاصة بطرد العمال الفلسطينيين الذين نُقل إليهم الوباء داخل الكيان وذلك بعد أن دعتهم نفس حكومة الكيان للعمل والمبيت في أماكن العمل هناك.
الجزء الأول
الجزء الثالث