المزالق المدمرة في الصراع الفصائلي ( الحلقة الخامسة )
د. خير الدين عبد الرحمن
يبدو المشهد الفصائلي الراهن داخل فلسطين مختزلاً بما ظل محتشداً حول القيادة الممسكة بالسلطة وبحركة فتح وأعضائها المرتبطين عاطفياً بحركتهم أو المحكومين معيشياً ووظيفياً بتلك القيادة بعد سقوطها في فخ أوسلو ، إضافة إلى بقايا فصائل منهكة أكثر خضوعاً للحاجة إلى التمويل ، وأشباه فصائل افتعلتها منافسات وصراعات وتدخلات خارجية وانشقاقات وانسلاخات هزيلة أحكمت قيادة فتح والمنظمة ترتيبها أو استثمارها لإظهار ( التفاف ) و( إجماع وطني ) حولها من جهة ، في مقابل حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وحركة الجهاد الإسلامي من جهة ثانية، أما خارج الوطن فنجد تشكيلات وتيارات محاصرة ومكبلة حاول بعضها تجديد حركة فتح والتمسك بمبادئها وأهدافها من جهة، وفصائل وأجنحة أو بقايا فصائل رعتها سوريا تاريخياً وربطتها عضوياً ولم يعد دور أكثرها يتجاوز عملياً إصدار بيانات وتصريحات عن بعد من جهة أخرى !
كانت المرة الأولى التي سمعت فيها اسم حركة حماس وعرفت بوجودها عندما قال أبو عمار في اجتماع حركي دعينا إليه في تونس مع بدء انتفاضة الحجارة : لن أسمح بقيام حركة المقاومة الإسلامية (حماس) . كرر أبو عمار هذا القول في اجتماع آخر دعينا إليه في تونس أيضاً بعد نحو شهر آخر مضيفاً القول : إذا كنت سوف أسمح بقيام حماس ستظهر بالمقابل حركة المقاومة المسيحية ( حمام) وأنا لن أقبل أبداً بتقسيم الشعب الفلسطيني على أساس طائفي . هنا حاولت مناقشته مستذكراً وقائع عشتها ، لكن أبا عمار لم يترك لي فرصة الحديث بهذا الموضوع ، وتكرر الأمر أكثر من مرة في اجتماعات لاحقة .
أول تلك الوقائع هي أن أحد الأخوة المسيحيين من أبناء فتح ممن التصقوا بي في العام 1971 قد طلب مني دعم فكرة له بتشكيل تنظيم مسيحي فلسطيني مقاتل لدى أبي عمار وأبي جهاد ، قد جاءني بعد أسابيع مودعاً وقائلاً : لقد وافق أبو عمار وأبو جهاد على تكليفي تشكيل تنظيم مسيحي مقاوم داخل فلسطين ، وسأغادر غداً إلى قبرص لأبدأ اتصالاتي من هناك ، ثم أخرج من جيبه أمراً إلى مالية فتح لصرف عشرين ألف دولار سلفة نفقات لمهمته تلك .
ثاني تلك الوقائع أن ياسين عمر الإمام ، قائد المعارضة في البرلمان السوداني ، زارني في مكتبي بالخرطوم دونما موعد مسبق سنة 1977 داعماً تصريحاتي ومقالاتي الساخنة ضد سياسة أنور السادات آنذاك ، وقد فهمت من سياق الحديث أنه من قادة الحركة الإسلامية ، وأنه قابل مع آخرين أبا عمار سنة 1969 وسنة 1970 في عمان حيث تم التفاهم معه على تخصيص معسكر مستقل في قوات العاصفة لتدريب واستيعاب إسلاميين، وفعلاً تمت إقامة معسكر حمل اسم الشيوخ.
ثالث تلك الوقائع أنني ممن تبنوا وروّجوا مبكراً في حركة فتح مقولة ماو تسي تونغ : ” دع مائة زهرة تتفتح ” ! كما أنني كنت أنتقد الإسلاميين علناً لأنهم بعد مشاركة متطوعيهم بفعالية في الحرب ضد الغزاة الصهاينة سنة 1948اكتفوا (بجهاد) الدعاء تاركين أمر القتال لجيوش أنظمة معظمها محكوم ومتحكم به من قبل صانعي الغزوة الصهيونية ورعاتها ، فكيف أقبل اليوم برفض حملهم السلاح ومشاركتهم في القتال ضد مغتصبي وطني الصهاينة ؟ وكيف أقبل أصلاً الحديث بمنطق ( أسمح ) و ( لا أسمح ) إزاء ولادة تشكيل مقاتل لتيار واسع الانتشار في مجتمعنا ؟ أكثر من هذا كنت شاهداً على طريقة تصنيع ( شرعية) لأكثر من فصيل قناعاً لتيار سياسي أو تقرباً من دولة ما ، فلماذا يحرم تيار عريق واسع الانتشار وذو قدرة كبيرة على رفد القتال ؟ وهل بوسع أحد إلغاء مثل هذا التيار عملياً ؟
توالت همساً وجهراً ترويجات تتهم حركة حماس بأنها صنيعة أجهزة مخابرات العدو ، وأن قادة العدو قد شجعوا قيامها بل وسهلوا تسليحها لكي تحارب حركة فتح ، وأقوى دليل اتكأت إليه تلك الترويجات هو أن (المجمع الإسلامي) الذي ترعرعت حماس في كنف نواديه الرياضية ومؤسساته الاجتماعية قد حصل على ترخيص من الحاكم العسكري الإسرائيلي لغزة .. مثل هذا الدليل قادر على إثارة العصبيات التنظيمية والعاطفية لدى العامة ، إلا أن التفكير للحظات كفيل بإسقاطه ، فغزة كانت آنذاك شأن الضفة الغربية تحت سلطة مطلقة لحاكم عسكري وقيادة لجيش احتلال ، وكل ترخيص أو إجراء إداري كان يتم عبر ذلك الحاكم وأجهزة الاحتلال . تذكرت على الفور مع سماع تلك الترويجات ما واجهناه في حركة فتح عقب انطلاق الكفاح المسلح مطلع العام 1965 من اتهامات مؤلمة بالعمالة لحلف المعاهدة المركزية (السنتو ـ حلف بغداد سابقاً) بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا، بل وحتى بالعمالة للعدو الصهيوني ، وبأننا واجهة للإخوان المسلمين ، وأننا خونة نسعى إلى توريط الجيوش العربية في حرب لم تكمل استعداداتها لها مع العدو الصهيوني ( ترى متى سوف تكتمل تلك الاستعدادات ، حتى بعدما مضت سبعون سنة على قيام كيان الغزاة الصهاينة باغتصاب فلسطين ؟ ) .. آلمتنا وأضنتنا هذه الاتهامات الظالمة وأخرى روجتها المخابرات المصرية أساساً عبر صحف لبنانية مرتبطة بها ، بحيث لم نتنفس الصعداء إلا بعد معركة الكرامة التي أخرست مروجي تلك الاتهامات ، وخاصة بعد اجتماع الرئيس المصري جمال عبد الناصر بقادة فتح ومجاهرته بدعمها ، لكننا لم نلبث أن واجهنا بعد فترة اتهام المقاومة الفلسطينية عامة بالشيوعية والتخريب من قبل أجهزة وأوساط سعودية.
غرقت في مهامي اليومية مكرساً معظم وقتي وجهدي لدعم انتفاضة الحجارة ، ولم أتابع تلك الاتهامات إلى أن طلب السفير المصري محمود عثمان زيارتي في خريف العام 1988. كانت الانتفاضة قد استقطبت دعماً قوياً على امتداد العالم آنذاك . قال الرجل أنه يود سماع رؤيتي الإستراتيجية لمستقبل ( النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي) ، فرحت أتحدث عن الآفاق التي تبشر الانتفاضة بها تطويراً للأداء الفلسطيني في سياق ( الصراع العربي ـ الصهيوني ) ، إذ انتقل الثقل الرئيس للفعل الفلسطيني إلى داخل الوطن بمشاركة واسعة فعالة لمعظم أوساط شعبنا هناك، ولم يعد مجرد محاولات تنفيذ عمليات متفرقة عبر حدود الدول العربية مع وطننا الفلسطيني المغتصب ، تلك الحدود التي أغلقت في وجوهنا تباعاً باستثناء لبنان ، فجرى إغراقنا في حرب داخلية دموية هناك لشغلنا عن تركيز كل جهدنا ضد العدو الصهيوني، وأخيراً تم إرغام قواتنا على مغادرته . قاطعني السفير المصري مرتين قائلاً : أنا مكلف بالاستماع إلى توقعك لمستقبل (النزاع) باعتبارك صاحب رؤية إستراتيجية، بينما أنت تحدثني بفرح عن ( شوية عيال بيحدفوا طوب )!
استفزني إصراره على وصف الصراع بنزاع ، وهو تقزيم كان بطرس غالي قد استخدمه في القمة الإفريقية بمنروفيا سنة 1979 ، فتصديت له مراراً بعنف في الجلسة العامة ، كما استعمله عمرو موسى في لجنة الصياغة فتصديت له أيضاً. توسعت في الحديث للسفير منطلقاً من نفس القاعدة : الصراع لن ينتهي سوى بتحرير فلسطين وعودة لاجئي شعبنا إلى الوطن ، والانتفاضة تفتح الطريق نحو تصعيد أشكال أخرى من المقاومة بما فيها الكفاح المسلح . فرد السفير قائلاً : (ده كلام حماسي تقوله للناس في الإذاعة أو في مهرجان ، إنما الموقف المسؤول هو أنكم لازم تنهوا النزاع مع إسرائيل فوراً وتقبلوا بأي عرض منها حتى لو كان غزة بس ، عشان يتشكل تحالف من مصر والمنظمة وإسرائيل يتصدى للظاهرة الخطيرة اللي تهدد المنطقة ) ! سألته بمزيج من الغضب والذهول : ما هي تلك الظاهرة الخطيرة التي تريدني أن أتخلى عن 98% من أرض وطني وأتحالف معك ومع الغزاة الذين اغتصبوا وطني ونكلوا بشعبي وهجروا معظمه للتصدي لها ؟ فأجاب : ألا تدرك خطورة ظاهرة تشكل حركات إسلامية في فلسطين وحملها السلاح بحجة مقاتلة إسرائيل بينما هي تشكل خطراً على الأنظمة العربية الحاكمة في البلدان المجاورة وتشجع قيام حركات مماثلة فيها ؟
لم أحتمل مزيداً من هذا الحوار فوقفت قائلاً : تحرير شبر من أرض فلسطين أهم عندي بكثير من أن يحكم حاكم بلده بضع سنوات إضافية . فوقف السفير بدوره وقال : قالوا لي أنك تغرد خارج السرب ، إنما لم أتوقع أنك متطرف إلى هذا الحد . انتظر تعليمات من قيادتك! استفزتني عبارته الأخيرة فأجبته : قيادتي تعرف جيداً منذ 1965 أنني أعمل بقناعات لا بتعليمات ..
للأسف ، وصلتني رسالة بالفاكسميل من أبي عمار ذات عواطف متدفقة ، بدأها بمخاطبتي ( الأخ الحبيب أبو الخير ) وبعد مديح تجاوزت سطوره إلى آخر الرسالة وقرأت : ( أنا واثق أنك تدرك مدى حاجتنا إلى دعم الأخوة في القيادة المصرية في المرحلة القادمة ) . ابتسمت بمرارة في تلك الليلة وكتبت استقالتي المعللة سياسياً ووطنياً وأخلاقياً من عملي سفيراً ، واحتفظت بها لإرسالها في الوقت المناسب .
توقفت لاحقاً عند مشهد تصدي أبي عمار بشراسة لمتحدث تحدث في جلسة للمجلس الوطني الأخير في الجزائر عن النهج الإسلامي في الجهاد ضد العدو الصهيوني . إذ قاطعه قائلاً : ( لا أسمح لك أن تعطي دروساً في الإسلام ، أنا أفتي لك في الشريعة ..) فختم الرجل حديثه مختصرا أمام سطوة أبي عمار وهالته.
كان الرجل أحد عضوين تفاهم أبو عمار مع حركة حماس على حضورهما دورة المجلس تلك كمستقلين ، لأن حماس كانت تطالب بعدد مماثل لعدد أعضاء فتح في المجلس ، الأمر الذي لم يقبل أبو عمار مجرد سماعه ، ناهيك عن مناقشته . ولم يدرك سوى عدد قليل جداً من المتابعين أن أبا عمار قد حرص على مشاركة هذين العضوين ليوازن قبول ( قوات الأنصار) ، واجهة الحزب الشيوعي ، في المنظمة وتخصيص أعضاء لها في المجلس بعد (ترتيب) إصدار بلاغين عسكريين باسمها عن ( عمليتين ضد العدو )، وهو الشرط الذي كان معتمداً لمنح أي فصيل (شرعية وعضوية في المجلس الوطني )
ولم ألبث أن شعرت بضرورة التعرف إلى ديني الذي تصر القوى الدولية على منع أي دور له في صراعنا ضد الغزوة الصهيونية ، على الرغم من الدور الطاغي للعامل الديني في نشوء ونمو وغزو الحركة الصهيونية لفلسطين ، وعلى الرغم من أن الغرب قد استثمر هذا العامل في تجميع وتسليح عشرات الآلاف من المتطوعين المسلمين لقتال الجيش السوفييتي في أفغانستان . وهكذا بدأت متأخراً التمعن في آيات القرآن أول الأمر ، ثم رحت أهتم بمتابعة ما تطلقه مراكز الأبحاث والدراسات الصهيونية والأمريكية والأوربية بهذا الصدد ، مثل الترويج لتحذير من إعلان وشيك لقيام الخلافة الإسلامية التي ستهدد الحضارة الغربية !
كتبت لاحقاً محذراً من أن هذا الترويج الذي يجيء بينما العالم الإسلامي في أقصى حالات التشرذم والضعف، وفي الوقت الذي يلقى المسلمون قمعاً ومجازر دامية في الفلبين وبورما وتايلند وجنوب الصين وأوربا والعديد من مناطق العالم، يهدف إلى رفع وتيرة العداء للإسلام والمسلمين في العالم من ناحية ، ودفع متحمسيهم إلى التكتل وحتى التسلح من ناحية أخرى دفاعاً عن الذات ، مما يشكل ذريعة للإجهاز عليهم بعد استدراجهم إلى بلدان معينة وإقناعهم بأنهم قادرون على إعلان الخلافة فيها ، إضافة إلى إشعال صراعات داخلية مدمرة بين المتدينين والتغريبيين في معظم المجتمعات الإسلامية .
كنت قد باشرت عقب استقالتي وسحبي ترشيحي لعضوية اللجنة المركزية لحركة فتح في العام 1979الدعوة إلى تيار عابر للفصائل ، مقاتل ضد العدو الصهيوني ، يوحد ما بين الديني والقومي والوطني على قاعدة وحدة فلسطين أرضاً وشعباً وقضية ومصيراً . وعلى الرغم من أني توجست آنذاك ، بل وقبل ذلك ، أن افتعال وتغذية صراع بين حركة فتح والتنظيمات الأخرى من ناحية والتيار الإسلامي من ناحية أخرى ، هو وجه سري مخفي من وجوه مشاريع وصفقات تسوية تلاحق تسريب ملامحها وصيغها لغواية القوى الوطنية الفلسطينية ، وصولاً إلى استبدال الصراع الفلسطيني / العربي ـ الصهيوني بصراع فلسطيني ـ فلسطيني برعاية العدو الصهيوني !
لكنني على الرغم من هذا التوجه ، تلكأت مراراً في الاستجابة لدعوة نقلها أصدقاء منهم المرحوم محمد أبو القاسم حاج حمد للقاء الشهيد فتحي الشقاقي ، معتذراً بأني أريد تأجيل أي لقاء من هذا القبيل إلى ما بعد تبلور التيار الذي أدعو إليه وترسخه على أرض الصراع ضد العدو الصهيوني . إلا أن الشهيد فتحي الشقاقي قد بادر من ناحيته وتقدم مني أثناء تواجدنا في مؤتمر القيادة الشعبية الإسلامية العالمية في العاصمة الليبية طرابلس ، وتوالت لقاءاتنا بعد ذلك في دمشق عقب إبعادي من قبرص .. وتلكأت مجدداً في الاستجابة لاقتراح الشهيد الشقاقي اللقاء بقادة من حركة حماس لنفس السبب ، وربما لكي لا تنطلق دعاية تستغل مثل هذا اللقاء لمهاجمة دعوتي إلى ذلك التيار الوحدوي من قبل أوساط الصفقة التي جرى لاحقاً إخراجها في أوسلو .. وهكذا لم ألتق بأي أخ من حركة حماس على مدى ثلاثين سنة ، إلى أن جمعني لقاء عابر لدقيقتين مع أسامة حمدان في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2017، عندما قدمنا صديقي معن بشور إلى بعضنا بعضاً أثناء اجتماع المؤتمر القومي الإسلامي في بيروت !
مع ذلك ، لا أملك ، ولن أملك ، سوى أن أكون منصفاً تجاه حركة حماس ، بمثل وفائي لحركتي فتح عندما أستعرض بعض تطورات الصراع المحزن بينهما في الحلقة القادمة .
المزالق المدمرة في الصراع الفصائلي (الحلقة الأولى)
المزالق المدمرة في الصراع الفصائلي (الحلقة الثانية )
المزالق المدمرة في الصراع الفصائلي (الحلقة الثالثة )